العذراء القديسة مريم والطفل يسوع
يقول الوحي المقدس: «وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ كَمَا تَسَمَّى مِنَ الْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ» (لوقا 2: 21).
قامت العذراء القديسة مريم وخطيبها يوسف بختان الطفل يسوع في اليوم الثامن من ولادته طاعةً للوصية الكتابية «َفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ يُخْتَنُ لَحْمُ غُرْلَتِهِ» (لاويين 12: 3). والختان، شأنه شأن المعمودية، علامة على التطهير، وختمٌ لصحَّة انتماء أهل بيت الله. وكان ختان يسوع، شأنه شأن معموديته من يوحنا المعمدان، لتكميل كل بر (متى 3: 15). «مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلَّهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ. لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عبرانيين 2: 17، 18).
لقد أكرمت العذراء وخطيبها طقوس الديانة اليهودية، الأمر الذي يعلمنا وجوب معمودية أطفالنا، وتعليمهم عندما يصبحون قادرين على الإدراك أن ختان الجسد يرمز إلى ختان القلب، أي نزع الشهوات الجسدية.
وبختان الطفل يسوع قبله اليهود كواحد من شعب الله، وسمحوا له بدخول الهيكل، وطلبوا أن يسمعوا تعليمه كمعلّم.
أطلقت العذراء على وليدها اسم «يسوع»
وفي اليوم الثامن من ميلاد الطفل يسوع أطلقت عليه العذراء اسم «يسوع» كما «قَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هَذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لوقا 1: 31-33). فأظهرت إيمانها بأنها «أم المخلّص» كما أظهرت طاعتها للتوجيهات الإلهية.
وقد أعلن الوحي أسماء ستة أشخاص من قبل أن يولدوا، هم إسماعيل (تكوين 16: 11) وإسحاق (تكوين 17: 19) والملك يوشيا (1ملوك 13: 2) وكورش الفارسي (إشعياء 44: 28) ويوحنا المعمدان (لوقا 1: 13) والسيد المسيح (لوقا 1: 31).
قدمت العذراء وليدها للرب
ودفعت خمسة شواقل
وبعد ختان المسيح بثلاثة وثلاثين يوماً، لما بلغ عمره أربعين يوماً «تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى» التي وردت في اللاويين 12: 1-8، فصعدت به العذراء القديسة مريم إلى هيكل أورشليم «لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوساً لِلرَّبِّ. وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ» (لوقا 2: 22-24).
ومرة أخرى نجد العذراء المباركة تنفذ مطالب الشريعة بحذافيرها، إيماناً منها بمحبة الرب ورحمته، فقد طلبت الشريعة الموسوية تقديم الابن البكر للرب، لأن الرب قتل كل ابن بكر في مصر واستثنى أبكار بني إسرائيل، فكان الأمر أن كل الأبناء الأبكار الذكور يخدمون الرب ككهنة كما جاء في خروج 13: 2 «قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْبَهَائِمِ. إِنَّهُ لِي». وفي سفر العدد نرى أن كل سبط لاوي صار بدل الأبكار كلهم ليكونوا كهنة للرب، كما قال: «هَا إِنِّي قَدْ أَخَذْتُ اللاوِيِّينَ مِنْ بَيْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَدَل كُلِّ بِكْرٍ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ اللاوِيُّونَ لِي. لأَنَّ لِي كُل بِكْرٍ. يَوْمَ ضَرَبْتُ كُل بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرٍَ قَدَّسْتُ لِي كُل بِكْرٍ فِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النَّاسِ وَالبَهَائِمِ. لِي يَكُونُونَ. أَنَا الرَّبُّ» (عدد 3: 12، 13).
ولما كان ذكور اللاويين أقل عدداً من أبكار بني إسرائيل أمر الرب أن يُفدى كل بكر بخمسة شواقل علامة على أنهم مِاكٌ للرب (عدد 18: 16). وقد قدمت العذراء مريم وخطيبها يوسف هذا المبلغ للهيكل.
قدمت العذراء ذبيحة تطهيرها
وقدمت العذراء في تلك المناسبة ذبيحة تطهيرها بعد ولادتها، حسب الشريعة القائلة «وَمَتَى كَمِلَتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا لأَجْلِ ابْنٍ أَوِ ابْنَةٍ تَأْتِي بِخَرُوفٍ حَوْلِيٍّ مُحْرَقَةً، وَفَرْخِ حَمَامَةٍ أَوْ يَمَامَةٍ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، إِلَى الْكَاهِنِ، فَيُقَدِّمُهُمَا أَمَامَ الرَّبِّ، وَيُكَفِّرُ عَنْهَا فَتَطْهَرُ مِنْ يَنْبُوعِ دَمِهَا. هَذِهِ شَرِيعَةُ الَّتِي تَلِدُ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى.
وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهَا كِفَايَةً لِشَاةٍ، تَأْخُذُ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ، الْوَاحِدَ مُحْرَقَةً وَالآخَرَ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، فَيُكَفِّرُ عَنْهَا الْكَاهِنُ فَتَطْهُرُ» (لآويين 12: 6-
وقد قدمت العذراء يمامتين أو فرخي حمام، لأنها كانت فقيرة في المال، ولو أنها كانت أغنى الأغنياء في الروحيات..
قدمت العذراء حمل الله
غير أن العذراء المباركة قدمت أفضل من كل من قدموا ذبيحة تطهير من قبلها ومن بعدها، فقد قدمت وليدها، حمل الله الذي رفع خطية العالم، والذي صار فصحنا ذُبح لأجلنا، وبهذا تحققت نبوة النبي حجي: «وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الأُمَمِ، فَأَمْلأُ هَذَا الْبَيْتَ مَجْداً قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.. مَجْدُ هَذَا الْبَيْتِ الأَخِيرِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِ الأَوَّلِ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَفِي هَذَا الْمَكَانِ أُعْطِي السَّلاَمَ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ» (حجي 2: 7، 9)
العذراء تقدم تعزية شعب الله لسمعان الشيخ
وبمناسبة زيارة الهيكل في اليوم الأربعين بعد ولادة يسوع، «كَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ اسْمُهُ سِمْعَانُ، كَانَ بَارّاً تَقِيّاً، يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ. فَأَتَى بِالرُّوحِ إِلَى الْهَيْكَلِ.
وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ، أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ: «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ، نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ».
وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ.
وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إِنَّ هَذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. 35وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ» (لوقا 2: 25-35).
كان اليهود يتوقعون ولادة المسيح من عذراء، كما جاء في النبوات «يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (أي الله معنا).. لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ السَّلاَمِ. لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ. غَيْرَةُ رَبِّ الْجُنُودِ تَصْنَعُ هَذَا» (إشعياء 7: 14 و9: 6، 7).
كما كانوا يتوقعون ولادة المسيح المخلص في بيت لحم حسب النبوة القائلة «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ» (ميخا 5: 2).
ويقول التقليد إن سمعان الشيخ قرأ نبوة إشعياء عن الميلاد العذراوي، فتساءل: كيف تلد العذراء؟ فجاوبه الرب أنه لن يموت قبل أن يرى العذراء وقد ولدت عمانوئيل.
وفي اليوم الأربعين من ولادة يسوع قاد الروح القدس سمعان الشيخ إلى الهيكل، ودبَّر الله أن يلتقي بالعذراء ويوسف بالرغم من زحمة الهيكل بالمصلين. وأرشده الروح أنه قد التقى بعمانوئيل وليد العذراء، فحمل الطفل وسبَّح الله، وطلب منه أن يطلقه من قيود الجسد إلى سماء المجد بسلام بعد أن رأى مسيح الرب، وأبصر خلاصه.
ولم تكن العذراء ولا يوسف يعلمان بتساؤلات سمعان الشيخ ولا بإجابة الرب عليه، فأخذا يتعجبان من كلام سمعان الشيخ، ولعلهما تعجبا من معرفة سمعان كل هذه الحقائق التي نطق بها عن الطفل الوليد عند أول مشاهدة له، مع أنه غريب عنهما.
وبارك سمعان يوسف والعذراء، وقال للعذراء إن الله قد عيَّن هذا الطفل لسقوط الذين يرفضون الإيمان به، ولإقامة وإنهاض التائبين الذين يؤمنون به. وقال إن يسوع «لعلامة تُقاوم» كنبوَّة عن صلب المسيح.
ثم قال للعذراء إن سيفاً سيجوز في نفسها، أي أنها ستختبر أشد الأحزان. وقد جاز سيف في نفس العذراء المباركة يوم رفض أهل الناصرة المسيح وحاولوا أن يطرحوه من على الجبل (لوقا 4: 29)، وجاز في نفسها سيف يوم قال الفريسيون للمسيح إنه يخرج الشياطين بقوة رئيس الشياطين (متى 11: 46)، وجاز في نفسها سيف يوم وقفت قرب الصليب وسمعت اليهود يهزأون به (يوحنا 19: 25) ولكن أعنف سيف كان يوم مات ابنها ودُفن.
وقال سمعان للعذراء إن المسيح وُضع لتُعلن أفكار من قلوب كثيرة، فتتضح خفيات القلوب في من يقبلون المسيح المخلّص ومن يرفضونه.
عودة إلى الناصرة
يقول الوحي عن العذراء، ويوسف، والطفل يسوع: «وَلَمَّا أَكْمَلُوا كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ نَامُوسِ الرَّبِّ رَجَعُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى مَدِينَتِهِمُ النَّاصِرَةِ. وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ« (لوقا 2: 39، 40).
لقد أكملت العذراء المباركة كل مطالب الشريعة، فعادت إلى بلدها الأصلية الناصرة، في منطقة الجليل، وبقيت الناصرة بلد يسوع ومريم العذراء إلى أن بلغ المسيح السنة الثلاثين من عمره.