في قبضة الحب!
في قبضة رجال الشرطة دخل عادل حجرة النوم في خطوات هادئة لم يعتدها من قبل، وأغلق الباب، لكنه عِوض أن يُلقى بجسده المُنهك على السرير، ارتمى على الأرض، وأسند برأسه على الكرسي، وهنا سبحت أفكاره يمينًا ويسارًا. تجلَّى أمامه الماضي البعيد والماضي القريب كما الحاضر أيضًا. كان يناجي نفسه تارة بصوت مسموع، وأخرى إذ يدرك أنه في بيتٍ غريبٍ يصمت ليناجي نفسه سرًا: [لقد عشت يا عادل كل حياتك محرومًا من الحب، لا تذكر حتى في طفولتك أن أمك قد احتضنتك يومًا ما، ولا أباك كان يترفق بك، ولا اخوتك يهتمون بك. عشتَ لا تعرف العاطفة، ولا تذوقت الدفء العائلي. بدأت حياتك الدراسية طفلاً مشاكسًا، لا تعرف الرقة في التعامل ولا احترام الآخرين، تريد أن تنتقم من كل إنسان وتشاغب مع كل أحد. وكان نصيبك النبذ من المدرسين والطلبة. لم يعرف أحد أن يدخل قلبك ويروي عطشك أو يُضمد جراحاتك الخفية، أما أنت فلا تعرف لغة القلب. كان نصيبك الفشل المستمر، فصرت من جماعة المشاغبين، وانتهى أمرك بالطرد من المدرسة. قسا الزمان عليك، فقسوت على الناس، وصار العنف يسري في دمك. تعلمت أن تغتصب كل ما تقدر أن تمتد إليه يديك، فصرت مُحترفا السرقة. وأخيرًا انتهت حياتك بالسجن لتعيش منبوذًا من الجميع، محرومًا من أثمن ما في الوجود: الحرية! والآن ها أنت في "فيلا" جميلة، أصحابها أغنياء، أغنياء بالأكثر في الحب! لعلَّها أول مرة ترى فيها أُناسًا يبتسمون في وجهك ويهتمون بك ولا يحتقرونك. لماذا يُحبونك؟ وماذا يرجون فيك أو منك؟!] هكذا لم يدرِ كم من الوقت قد قضاه سابحًا في أفكاره، يذكر لمسات الحنان التي قدمتها له السيدة العجوز والملابس الجديدة التي قدمها له ابناها. لكنه تحت ضغط الإرهاق الجسدي الشديد أغمض عادل عينيه ليغُط في نومٍ عميق وهو ملقى على الأرض بلا حراك. فجأة، فتح عادل عينيه على قرعات الباب الهادئة، وبدأ يفكر بسرعة خاطفة أين هو؟ وما الذي جاء به إلى هذه الحجرة الجميلة بأثاثها الفاخر. لكنه تدارك الأمر أنه في استضافة عائلة مُحبة تلقفته بعد أن قضى زمانًا في السجن. فتح عادل الباب ليجد أحد الشابين يعتذر له إن كان قد أيقظه من النوم بقرعات الباب: - آسف جدًا يا أخ عادل. فإني ما كنت أحسبك نائمًا. خشيت أن تكون في خجل من أن تأتي وتجلس معنا. - شكرًا يا أخي على محبتك، فقد كنت مُحتاجا فعلاً أن أنام كل هذه الفترة الطويلة. - إذن، فلتتفضل معنا العشاء لتعود وتُكمل راحتك. ذهب عادل إلى "الحمام" وغسل وجهه بسرعة، ثم جلس مع الأم العجوز وابنيها على المائدة. بعد صلاة قصيرة بدأوا يأكلون وهم يتجاذبون أطراف الحديث. - نرجو أن تكون قد أخذت قسطًا وافرًا من الراحة. - أشكر اللَّه، فإني أشعر براحة، خاصة وأنا في وسطكم. - يسرنا جدًا أن تعيش معنا، فالمكان مُتسع، وبركات الرب كثيرة! - أنا لا استحق هذه المحبة، ولا استحق أن أعيش بين قديسين مثلكم، فإني إنسان شرير. قضيت عمري في الخطية والشر. - لا تقل هذا يا عزيزي، فنحن جميعًا تحت الضعف. ولكل منا خطاياه، لكن الرب يستر علينا برحمته. - لا... لا تقل هذا. لعلَّك لا تعرف ما أنا عليه... فقد امتزجت طبيعتي بالشر، وكأني والشر صرنا واحدًا. - لا تخف، فإن اللَّه الذي خلقنا قدَّم حياته من أجلنا. إنه يحبنا، نزل إلينا، وصار مثلنا كواحد منَّا، ودفع حياته ثمنًا لخلاصنا. - لعلَّه يُخلص آخرين غيري... - لا... بل يريدك أنت. إنه يحب كل إنسان، ويشتهي خلاص كل أحد. - ألم أقل لكم أنتم لا تعرفونني. لقد قضيت حياتي كلها في الشر. لقد امتزجت حياتي بكل أصناف الخطية، وما أظن إني أقدر أن أتخلص منها! - اللَّه الذي يحب الخطاة هو يقدر أن يُعين الجميع. لقد غيَّر حياة الزناة والعشّارين ودخل بهم إلى الفردوس. إذ انتهوا من العشاء غسلوا أيديهم، ونزلوا معًا إلى الحديقة يُكملون الحديث عن محبة اللَّه اللانهائية. حتى انسابت دموع عادل بغزارة ووقف الكل يصلون. بعد فترة ليست بطويلة أرادت العائلة أن تُرحب بالضيف أكثر فأكثر، فسألوه إن كان يأخذ فكرة عن الفيلا ومحتوياتها. فأجاب بالإيجاب وبدءوا يسيرون معه من حجرة إلى حجرة، يكشفون له عن أسرار البيت كله. وأخيرًا استقرت وقفتهم أمام قطعة أثرية جميلة وُضعت على البيانو. - إنها قطعة جميلة. - نعم، وأثرية أيضًا ( أجابت العجوز). - وما ثمنها. - إنها تساوي خمسة آلاف جنيهًا مصريًا. لكنها في نظرنا أثمن من ذلك بكثير، إنها لا تقدر بثمن. فهي تحمل ذكرى والدي وأجدًادي الذين توارثناها عنهم. بعد أن أخذ عادل فكرة عن البيت ومحتوياته، دخل الجميع الحجرة المخصصة للصلاة العائلية، وأمام أيقونة السيد المسيح صلى الكل، وذهب كل منهم إلى حجرة نومه. وضع عادل رأسه على الوسادة وحاول أن ينام لكنه لم يستطع إذ بدأت الأفكار تتراقص في ذهنه. [كيف تفلت هذه القطعة الأثرية من يدي؟ لكن كيف أخون الذين أحبوني من كل القلب؟ وهل أعيش عالة عليهم كل أيام حياتي؟ لأعيش عالة ولا أسرق، فقد وعدتهم ألا أعود إلى الخطية مرة أخرى. ما قيمة قطعة أثرية في أيدي أُناس أغنياء، هم ليسوا في حاجة إليها. لأسرقها وأبيعها كي أجد عملاً تجاريًا شريفًا، فلا أعود أنحرف بعد!] في وسط هذا الصراع العنيف قام عادل وتسلل وسط الظلام على أطراف أصابعه حتى بلغ إلى الصالة، وهناك وقف أمام القطعة مترددًا. مدَّ يده ليمسكها، ثم عاد فتراجع، وتكرر الأمر مرة ومرات، وأخيرًا تشدد وأمسك بالقطعة وتسلل نحو الحديقة ليجد الباب الحديدي مُغلقًا. لكن هذا لا يشكل مشكلة، فبسرعة البرق قفز من السور إلى الشارع ليجد نفسه أمام رجلين من الشرطة، أمسكا به. ارتبك عادل جدًا، ولم يعرف ماذا يفعل. لقد فتشه الرجلان ووجدًا معه القطعة الأثرية فأخذاها منه واقتاداه إلى دار الشرطة. في دار الشرطة أيقظت العجوز أحد ولديها على أثر قرعات غريبة على الباب بعد منتصف الليل، وكانت المفاجأة أن فتح الشاب ليجد أمامه رجلين من الشرطة: - لا تقلق، فقد أمسكنا رجلاً يقفز من سور حديقتكم ومعه بعض المسروقات، فأتينا نخبركم. - أشكركما تفضلا. - ضابط البوليس ينتظرنا، ويطلب رب البيت أن يحضر ليتعرف على المسروقات. - حالاً أحضر معكما. سمعت الأم العجوز الحديث، فأدركت أن عادل هو المقصود. للحال أسرعت نحو حجرته لتجد الباب مفتوحًا، وإذ دخلت لم تجده. عندئذ خرجت وأصرَّت أن تذهب مع ابنها إلى دار الشرطة. وعبثًا حاول ابنها أن يثنيها عن عزمها. انطلق الشاب بعربته ومعه والدته العجوز ورجليّ الشرطة، وهناك إذ دخل الكل حجرة الضابط، سلَّمت الأم على عادل سلامًا حارًا، أما هو فقد نكس رأسه ولم يقدر أن يرفع عينيه ويتطلع إليها. تعجب الضابط من المنظر. - أتعرفينه يا سيدتي؟ - نعم! أعرفه جيدًا، إنه صديقنا الحميم! - لقد وجدناه يقفز من سور حديقتكم. - إنه صديقنا والبيت هو بيته. - وجدنا معه قطعة أثرية ثمينة. - أنا أعطيته إيَّاها لكي يعالج عيبًا فيها. - ألا تتهميه بالسرقة. - مستحيل. - إذن، نتركه على مسئوليتكم! - لا، بل سنأخذه معنا يبيت الليلة عندنا. لم يحتمل عادل هذه المحاورة فقد شعر كأنه وقد أفلت من يد الشرطة صار أسير حب فريد لم يذقه من قبل. وهنا تسلّلت الدموع من عينيه وهو جامد الحركة لا يعرف ماذا يقول ولا كيف يتصرف. عندئذ تقدم الشاب في محبة، وأمسك بيده، واقتاده إلى السيارة ليذهب معهما إلى الفيلا. عند باب السيارة ثقلت قدمي عادل جدًا وانهمرت دموعه بكثرة وهو يُقبل يدي الأم العجوز، قائلاً: "سامحيني فقد أسأت لليد التي أحسنت إلىَّ". - لا تقل هذا يا عادل، فإن اللَّه يغفر لنا كل يوم. - أشكرك، لكنني لا أقدر أن أعيش أسير هذا الحب. إني لا أستحق حبكم، ولا أستطيع حتى أن أقف وسطكم. - إن كنتَ قد حكمت علينا أننا نحبك فاسمح أن تقضي بقية الليلة معنا. - لا أحتمل يا أمي، فإن نارًا تلتهب داخلي! - لا تقل هكذا يا عادل، اسمح أن نعود جميعًا فرحين. تحت لجاجة الأم العجوز ركب عادل معهما حتى وصلا الفيلا. وهناك نزل من السيارة ليقف على الرصيف وعيناه قد تسمَّرتا متجهتين نحو المكان الذي قفز منه. ربتت الأم على كتف عادل ودخل الكل إلى الفيلا، حيث تسلّل عادل إلى حجرته ليقضي بقية الليلة يجهش في البكاء، وفي الصباح المبكر بعد أن صلى مع العائلة وأخذ إفطاره استأذنهم وخرج بلا عودة! مع الراهب دانيال مرت السنوات وأصيبت الأم بمرض الفالج (الشلل) الذي أفقدها قدرتها على الحركة، فصارت حبيسة بيتها مع ابنيها الرجلين اللذين يبذلان كل الجهد في خدمة الكنيسة. كان الابنان يلتقيان كل مساء مع أمهما ليشترك الكل معًا في الصلاة العائلية، وبعد دراسة في الكتاب المقدس يسير الولدان بأمهما إلى إحدى الشرفات على "عجلة " خاصة بها، يقضون وقتا ليس بقليل يتحدثون في سير القديسين السابقين، وما يدور حول شخص الراهب دانيال. فقد فاحت سيرته المقدسة في كل أنحاء القطر، وتحول الدير إلى مزار يفد إليه الناس من كل صوب يلتمسون بركة القديس، الأمر الذي دفع بالراهب دانيال أن يترك الدير ويهرب إلى مغارة على بعد عدة أميال من الدير. في إحدى الليالي، قالت الأم لولديها: "اذهبا إلى أبينا دانيال ليبارككما، واطلبا منه أن يصلي عني". - ولماذا لا تأتي معنا يا أماه؟ - أنت تعلم يا ابني إني عاجزة عن الحركة، ولا أريد أن أثقل عليكما. يكفيني أن تنالا أنتما البركة. - لا... بل إن أردتِ فلتذهبي معنا ليصلي عنك فيهبكِ الرب الشفاء. - أنا لا أطلب شفاءً للجسد، بل أشتاق أن أكمل أيامي في رضى الرب وأعبر سريعًا. - لا تقولي هذا يا أمي، فنحن محتاجون إلى بركتك معنا. - لقد أكملت رسالتي يا ابني... إني اشتهي أن انطلق وأكون مع السيد المسيح، ذاك أفضل جدًا. أصر الابنان أن يأخذا أمهما معهما، وقرر الكل أن تكون الرحلة في اليوم التالي. وبالفعل في الصباح المبكر جدًا سار الابنان بأمهما إلى السيارة، وحملاها إلى المقعد الخلفي لتستريح، وانطلق الكل نحو البرية إلى الدير. لم يكن من السهل أن ينزلا بأمهما من السيارة ويحملانها على العجلة ليدخلا بها إلى كنيسة الدير. في الطريق إلى الكنيسة قالت الأم في ألم: "أرجو أن تتركاني في الدير هنا وتذهبان أنتما إلى المغارة، فإن السيارة لا تقدر أن تصل إلى المغارة، وأظن أن العجلة لا تقدر أن تسير في الرمال. يكفيني أن تذهبا وتطلبان منه أن يصلي عني. وأنا أنتظركما هنا حتى آخر اليوم. - لا تخافي يا أمي، فإن اللَّه سيدبر الأمر، نحن قد أتينا من أجلك وسنسأل إن كان بالدير سيارة "جيب" تقدر أن تصل بنا إلى المغارة. - لا تتعبان، ولا تحرجا أنفسكما مع الآباء الرهبان. - لقد علمتينا أننا بالإيمان لا يوجد مستحيل. هنا بلغ الكل باب الكنيسة، حيث خلع الكل أحذيتهم ودخلوا في مخافة وهدوء إلى الهيكل حيث سجد الابنان إلى الأرض وصلّيا. أما الأم فقد انذرفت دموعها وهى تصلي بكلمات غير مسموعة. وبعد أن قبَّل الكل أجساد القديسين خرجوا يسألون عن الراهب دانيال. سأل أحد الابنين راهبًا: كيف يمكننا الذهاب إلى مغارة أبينا دانيال؟ - هل تريدون أبانا دانيال؟ - لو سمحت، فإننا مشتاقون أن ننال بركته؛ وأمي كما تراها مريضة بالفالج. - على أي الأحوال، إن تدبير اللَّه حسن، فإن الأب دانيال حاليًا في الدير. أشار الراهب إلى الموضع الذي يجلس فيه أبونا دانيال، الذي تفرس فيهم كثيرًا وهم قادمين إليه. وإذ وصلوا إليه مع الراهب سألوا: أبانا دانيال؟ أجاب الراهب في هدوء: نعم أنا... أنت بولس؟ - كيف عرفتني؟ - وأنت بطرس؟ - نعم... أتعرفني؟ - هل هذه أمكما؟ - نعم! وفي لحظات ضرب الراهب دانيال مطانية أمامهم ثم أخذ الابنين بالأحضان وصار يقبلهما، ثم تقدم إلى الأم وصار يقبل يديها وهو يبكي. وقف الكل في دهشة، بل وتجمع عدد ليس بقليل من الرهبان يرون هذا المنظر الغريب. أخذ الراهب يقول للأم العجوز: ألا تعرفيني؟! أنا ابنك عادل، الذي احتملتم ضعفه وأسرتموه بالحب حين سرق القطعة الأثرية... أنا عادل الذي كنت لصًا، وعلى أيديكم عرفت مسيحي! إني مدين لكم بكل حياتي في المسيح يسوع! ثم ركع الراهب دانيال بجوار العجلة وصلى في اتضاع وانسحاق بدموع غزيرة ورشم الأم بالزيت باسم اللَّه القدوس الآب والابن والروح القدس، فتحركت الأعضاء اليابسة، وقامت العجوز عن العجلة لتمسك بيديها الأب دانيال وهى تسبح اللَّه وتمجده. هذه القصة رواها لي قداسة القس أثناسيوس بطرس وطلب منى تسجيلها في أسلوب قصصي...وإن كنت قد قمت بتغيير بعض أحداثها. منقول |