المعرفة
المسيحية هي الحقيقة العظمى التي يتلقَّاها الإنسان عن الله، يتلقَّاها
مبكِّراً لتتفتَّح كل ملكات فهمه وعقله ونفسه وروحه أول ما تتفتَّح على
حقائق الله. وكانت الكنيسة حريصة للغاية على تعليم الموعوظين، وهم جميع
الأشخاص الذين كانوا يريدون أن يدخلوا الإيمان المسيحي ليصيروا مسيحيين.
وكانت المدة المقرَّرة لتعليم الموعوظ كل الإيمان المسيحي ليُقبَل في
المعمودية ويتناول أول مرة، هي ثلاث سنوات. وكان التعليم يتم على يد
الأسقف نفسه، وذلك ضماناً أن يكون التعليم مؤيَّداً بالروح القدس، لأنه
تعليم الحق الإلهي الذي يُحسب الروح القدس أنه متخصِّص في تعليمه: «وأما
متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يو 13:16). وقد أسماه
المسيح: «روح الحق» (يو 26:15).
وقد مُنِح
الروح القدس للرسل رسمياً يوم الخمسين من قيامة الرب، وسلَّمه الرسل
للأساقفة الذين جاءوا من بعدهم ليقودوا الكنيسة. إلى هذا الحدِّ كانت
الكنيسة تهتم بتوصيل المعرفة للموعوظين، وكانوا من غير المسيحيين،
يستلمونها مدعَّمة بالحق، لأنها هي معرفة الله: الثالوث الأقدس، وكل أعمال
الخلاص التي أكملها المسيح ابن الله من التجسُّد والصَّلْب والقيامة
والصعود، حتى يتأهَّلوا للمعمودية ثم التناول.
فإنْ
كانت المسيحية قد جعلت العماد للمسيحيين وهم أطفال صغار رُضَّع؛ فيكون قد
فات على المسيحي، حينما ينمو ويصير شاباً ثم رجلاً أو امرأة، فات عليه كل
تعاليم الموعوظين التي كان يتحتَّم على الموعوظ أن يتقبَّلها قبل العماد
وقبل التناول. فأصبح المسيحيون يتناولون الآن بكل قاماتهم دون أن يكونوا قد
أكملوا المعرفة المسيحية، واكتفت الكنيسة باجتهادات بعض الجهات التي تقوم
بتعليم بعض الأطفال والصبيان والشباب؛ ولكن نسبة الذين يتعلَّمون في هذه
الجهات ربما تقل عن النصف، والنصف الآخر يدخل الكنيسة ويتناول من جسد الرب
ودمه - شباباً ورجالاً وسيدات - وليست لهم المعرفة المسيحية الرسمية التي
تؤهِّلهم للتناول.
من هنا أصبح على الكنيسة أن
تخصِّص مناهج لتعليم المؤمنين عامةً، تلقِّنهم فيها كل التعاليم الضرورية
جداً التي تؤهِّلهم للاشتراك في جسد الرب ودمه، وبالتالي تؤهِّلهم أن
يكونـوا أعضاءً في جسد المسيح، وبـالتالي أعضاءً في الكنيسة نفسها،
يخدمونها ويحملون همَّها.
وهنا يلزمني أن أعرض
على الكنيسة وكل المسئولين فيها وعلى جميع المؤمنين معاً، التعاليم التي
كان يتلقَّاها الموعوظون، ويكفي أن أذكر أعظم مدرسة لاهوتية ظهرت في مصر
وفي العالم كله للموعوظين، وهي مدرسة الإسكندرية للموعوظين، وقد
حُسِبَت في التاريخ باعتبارها أنها كانت على مستوى الجامعة الآن! وكان
يرأسها أعاظم اللاهوتيين أمثال: بنتينوس وكليمندس وأوريجانوس وديديموس
الضرير.
وقد تلقَّن فيها الدروس اللاهوتية
كموعوظين أهم أساقفة العالم آنئذ. فالمعروف تاريخياً أن القديس غريغوريوس
الناطق بالإلهيات قد تعلَّم فيها لمدة عدة سنوات على يد ديديموس الضرير
رئيس مدرسة الإسكندرية في ذلك الوقت، وأيضاً القدِّيسان باسيليوس الكبير
وغريغوريوس النيسي. والمعروف عن القديس باسيليوس الكبير أنه بعد أن أنهى
دراسته كموعوظ في مدرسة الإسكندرية، رُسِم مباشرة أسقفاً على كرسي قيصرية
كبادوكية وهو لا يزال لابساً ثوب المعمودية الأبيض.
أقول
هذا للبعض، الذين سمعنا أنهم قد بلغ بهم الاستهانة بتعليم الشعب وتسليمه
المعرفة المسيحية الدقيقة، سواء في اللاهوت أو في كلمة الإنجيل، لدرجة
أنهم يُعلِّمون - كما سمعنا - بأنَّ "التعليم يضرُّ المؤمنين، إذ يُعلِّمهم الكبرياء"!!
فيا
رجال الكنيسة، إنَّ أحوج الناس إلى الدراسة اللاهوتية ودراسة الكلمة
بتدقيق واجتهاد هو أنتم أولاً، لكي تعوِّضوا الشعب ما كان لابد أن يتعلَّمه
على يد أسقف ممتلئ من الروح القدس لمدة ثلاث سنوات كاملات، حتى يحلّ لكم
وللشعب الذي تخدمونه أن يشترك في مائدة الرب ويصير عضواً في جسد المسيح.
لقد
اشترط المسيح على المؤمنين به لكي يكونوا تلاميذه أن يثبتوا في تعليمه:
«قال يسوع... للذين آمنوا به: إنكم إنْ ثبتُّم في كلامي، فبالحقيقة تكونون
تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يُحرِّركم» (يو 8: 31،32)، «إن حفظتم وصاياي
تثبتون في محبتي، كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته» (يو
10:15).
ما معنى هذا؟
معناه
أنَّ الإيمان بالمسيح لا يكفي لكي يكون المؤمن تلميذاً للرب أو عضواً في
جسده، بل يلزم أن يثبت في تعليمه وفي وصاياه وفي محبته، بل وينمو في معرفة
الرب (كو 10:1).
فالتعليم المسيحي لا يشمل
الإيمان فقط، بل ودراسة جادة ساهرة للإنجيل وحِفْظ وصاياه وتكميلها
والثبوت فيها وفي محبته. التعليم المسيحي حياة في المسيح ومن أجل المسيح،
وليس واجبات تؤدَّى، ثم تجلسون أمام التليفزيون وأبناؤكم حولكم يتعلَّمون
أصول الزنا والفسق وتكميل الشهوات وكل الموبقات ثم يتناولون بلا مانع!
أيحق
لكم أن تعلِّموا الشعب في الكنيسة علناً أن المعرفة المسيحية ضارة
وتُعلِّم الكبرياء، وبيوتكم بها التليفزيون يعلِّم المعرفة النجسة والخصام
والعِراك والقتل مع بقية الموبقات؟
أيُّ منطق
هذا الذي تعيشون به وتعلِّمونه للناس؟ ثم أَلاَ تعلمون أن أيَّ مساس
بالتعليم المسيحي هو غاية ما يتمناه الشيطان، لكي في الجهل بالحق ينشر
الفساد والأباطيل؟ وأَلاَ تعلمون أنكم بالتقليل من أهمية التعليم، تعملون
بأيديكم في نشر الارتداد عن الإيمان وسيادة الشيطان؟
والسؤال
الذي يُدمي قلوبنا هو: مِِمَّنْ استلمتم هذه البدعة في التعليم؟ هل من
القديس أثناسيوس أو القديس أنطونيوس أو القديس كيرلس الكبير؟ أَلاَ تعلمون
أنكم مُلزمون بحراسة التقليد الكنسي، لا تحيدون عنه قيد أُنملة، وإلاَّ
حُسِبتم مبتدعين؟
التعليم والمعرفة التي يتحتَّم على الكهنة تقديمها للشعب:
هنا
نجـد الرب نفسه يضع منهج التعليم للمعرفـة المسيحية الضروريـة للحياة
اللازمة لدخول المؤمنين ملكوت الله، وقد قدَّمها باختصار في نهاية إنجيل
القديس متى هكذا:
1 - «فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع
الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلِّموهم أن يحفظوا
جميع ما أوصيتكم به» (مت 28: 20،19).
ما معنى هذا؟
معناه
أن التلمذة للمسيح تسبق العماد، والعماد باسم الآب والابن والروح القدس
منهج كامل بحدِّ ذاته، نرجو الرجوع فيه إلى كتاب: "المعمودية - الأصول
الأولى للمسيحية" للكاتب، وهو يُعطي أُسس العبادة الأولى. ثم علِّموهم -
على المدى - كقول الرب «أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به»، أي كل ما ورد في
الإنجيل، تعليماً يؤدِّي إلى معرفة روحية قلبية تثبت في قلوبهم ويثبتون
فيها، حتى يستطيعوا حفظها بالذاكرة لتكون حاضرة أمامهم في كل ظروف الحياة
التي تقابلهم. وقد أوضحها بعض الرسل في رسائلهم، وخاصة بولس الرسول الذي
اؤتمن على أسرار المسيح واستوفى شرحها في رسائله.
نخرج
من هذا أن الأناجيل الأربعة ورسائل الرسل وبولس الرسول، هي منهج متكامل
يُقدِّم للمؤمنين ما أراد المسيح أن يعلِّمه الأساقفة والكهنة لكنيسة الله
تحت وصية: «يحفظوا جميع ما أوصيتكم به».
وأيُّ
تقصير في تعليم وتعريف المؤمنين بكل ما أوصى به المسيح سيُنشئ نقصاً في
معرفـة المؤمنين، يظهر في عدم قدرتهم على مواصلة الحياة المسيحية بحسب
وصايا الرب، ويكون المسئول في ذلك الكنيسة بأساقفتها وكهنتها. وإهمال
المسئولية يعني دينونـة، لأن الشعب سيُخطئ ويسلك في الخطأ بسبب عدم
المعرفة: «هلك شعبي من عدم المعرفة» (هو 6:4)، «تضلُّون إذ لا تعرفون
الكُتُب» (مت 29:22).
2 - ولكي يُقدِّم
الأساقفة والكهنة الأناجيل والرسائل في فهمها التقليدي الصحيح؛ فإما
يرجعون هم إلى ما اجتهد فيه الآباء الأساقفة العظام، أو يُطالبون الشعب
بضرورة الرجوع إلى ما شرحه هؤلاء الأساقفة من الأسفار، إنما في مختصرات
بلغة الشعب تناسب قامتهم التعليمية، خاصة في المواضيع التي تبدو عسرة
الفهم.
3 - ونظراً لأن الكنيسة الأولى عانت من
تضارُب أقوال بعض الأساقفة، فأقاموا المجامع المسكونية التي ضمَّت كل
الأساقفة وناقشوا بنود الإيمان ووضعوا لها التفاسير الصحيحة في قوانين
رسمية صدرت عن المجامع؛ لذلك لَزِمَ تعريف الشعب بما استقرَّت عليه
الكنيسة في مجامعها الرسمية عن الأمور المُخالفة؛ لكي يكونوا:
أولاً: على معرفة بالرأي الصحيح؛
وثانياً: حتى يكونوا بمنأى عن الخروج عن حدود الإيمان الصحيح.
وبعد
استيفاء المعرفة الروحية في أصولها الأولى من الأناجيل والمجامع وشرح
الآباء الأفاضل فيما يخص أمور الإنجيل، يلزم مساءلة كل مَنْ يتقدَّم
للمناولة عن مختصر إيمانه المسيحي حتى يطمئن الكاهن أن الشعب على وعي روحي
يتناسب مع تناول السرِّ المقدس.
وما يتم في
تناول الجسد والدم، يلزم أن يتم أيضاً قبل تتميم سر الزواج حتى يطمئن
الكاهن أن الزوج والزوجة صالِحَيْن فعلاً لتعليم أولادهما وتعريفهما بأصول
إيمانهم وتربيتهم في خوف الله حسب وصاياه؛ وإلاَّ فيلزم إعطاؤهم فرصة
لدراسة أصول الإيمان والعقيدة ووصايا الرب.
(يونية 2000)